ومن استدلالات المتكلمين قولهم: إنه إذا لم يكن الراوي معصوماً كان الخطأ عليه جائزاً فحينئذ لا يكون صدقهم مقطوعاً بل مظنوناً؛ فثبت أن خبر الواحد مظنون فوجب أن لا يجوز التمسك به؛ لقوله تعالى: ((
إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ))[يونس:36] ولقوله تعالى في صفة الكفار: ((
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ))[الأنعام:116] ولقوله: ((
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ))[الإسراء:36] ولقوله: ((
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ))[البقرة:169] وقد ترك العمل بهذه العمومات في فروع الشريعة؛ لأن المطلوب فيها الظن، فوجب أن يبقى الأمر في مسائل الأصول على هذا الأصل وهو العمل باليقين.إذاً: ترك العمل بهذه العمومات في فروع الشريعة؛ لأن المطلوب فيها الظن، فوجب في فروع الشريعة أن نعمل بهذه الأحاديث، لأن الفروع يجوز العمل فيها بالظن، أما في الأصول فلابد من اليقين، فلهذا نأخذ بأخبار الآحاد في الفروع -أي في الأحكام- ولا نأخذ بها في العقائد، وموجز الكلام أنهم إذا كانوا غير معصومين فإن الخطأ وارد على كل واحد منهم وعلى كل رواياتهم، فيكون اتباعهم من اتباع الظن؛ لأن خبرهم ظنياً.والرد عليهم أن احتمال الخطأ عقلاً لا يجوز أن يبنى عليه وجوداً وواقعاً، ولهذا قلنا: لو عملنا بالاحتمالات العقلية ما ثبت لبني آدم أمر، أليس كل طبيب يمكن أن يخطئ؟ فلا أحد يقول: إن الطبيب الفلاني معصوم! فهل نغلق جميع المستشفيات والعيادات؛ لأنها من العمل بالظن على كلام
الرازي ، وكذلك البناءون أليس منهم من يخطئ؟ فهل نهدم جميع البيوت ولا نسكن في بيت قط لاحتمال سقوط البيت بسبب احتمال خطأ البناء في بنائه؟ ومثل ذلك القاضي، فالقضاة ليسوا معصومين، فهل نغلق المحاكم ولا يبقى في الدنيا محكمة؛ لأن هذا من الظن؟ وعندما يأتي شاهدان ويحكم القاضي وقد يخطئ، فلا داعي لوجود المحاكم، والله يقول: ((
إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ))[يونس:36] وهل يستدل بالآيات على هذا؟ وكذا أصحاب المطاعم لا يؤكل عندهم؛ لأن خطأهم وارد، فربما دسوا السم؟ وعلى هذا لا يستقر لبني آدم حقيقة قط، فنقول: فرق بين مجرد احتمال الخطأ وبين أن يكون الخطأ واقعاً، فإذا جاءنا من يقول: أخطأ
مالك في حديث كذا قلنا من أين لك هذا؟ هذا من عندكم أيها المتكلمون، ومن أنتم حتى يكون لكم عند، فالمتكلمون ليسوا بحجة في علم الحديث.إذاً: من قال: أخطأ الراوي الفلاني، قلنا له: كيف عرفت أنه أخطأ؟ يقول: لأنه يعارض القرآن، نقول: لا يعارض القرآن إلا بدليل، فلا بد أن يبين دليله لادعاء خطأ الراوي، أما الاحتجاج فقط بأنه يجوز عليه الخطأ بالذهن المجرد فهذا يمكن أن يرد به كل شيء، ولو عمل به أحد لأصبح في عداد المجانين، ولما مشى في أي شارع لاحتمال حدوث الصدام له فلا يعمل في الحياة أحد، ولا يستقر فيها أحد، وهذا هو الفرق بين الظن الذي نهى الله تعالى عنه أو القول على الله بغير علم وبين هذا، أما المحدث الثقة فإذا حدث فيجوز له أنه يخطئ لكن هل أخطأ في هذا الحديث؟الجواب: إذا لم يثبت عندنا ما يدعو إلى احتمال الخطأ فلا شك في صحة روايته، والقول بالخطأ دون دليل قول بلا علم، واتباع للظن، وقد قال تعالى: ((
لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ))[النحل:35] وهؤلاء يرد الله عليهم بقوله: ((
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ))[الأنعام:116] فالذين يقولون على الله تعالى ما لم يقله ولا أنزله ولا أوحى به مفترون على الله، وقائلون بالظن، وقد قال تعالى: ((
إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ))[يونس:36] فلو أن رجلاً حفظ حديثاً وأتقنه ولم يجرب عليه غير ذلك، ولو قطع وقتل لم يكذب على رسول الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب تصديقه، ومن يكذبه نقول له: هل أنت واحد أم أنتم عشرة أم ثلاثمائة أم سبعين أم أربعين؟ أنتم آحاد على بعض الأقوال، والآحاد ظني إذاً: لا نقبل كلامكم، بل يبعد تصديقكم بُعد المشرقين، لأنكم تريدون تحكيم الظن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.